سمير الفيل.. الحيــاة حـيـن تصير قـصــة ونــدوة و كتــابــا

سمير الفيل.. الحيــاة حـيـن تصير قـصــة ونــدوة و كتــابــا

إبراهيم محمد حمزة ـ جريدة القاهرة : 26 ـ 7 ـ 2011

وهكذا انطلقت رحلة عذاب ممتعة، لم يكمل السادسة إلا وكانت محلات وورش الموبيليا قد ابتلعته، واخذ يمزق الكارينة (ما يشبه القش الأصفرالذي يحشي به الكنب) ثم انتقل وهو في العاشرة مترقيا إلي درجة بائع أحذية، وهي المرحلة التي كتب عنها فيما بعد مجموعته الرائعة "صندل أحمر " تلك التي احتوت علي موضوع واحد فقط، رؤية للعالم كله من خلال عيني الطفل فلفل، وكان قد أهدي المجموعة إلي (الجزم والصنادل واللكلوك، إلي النعال والشباشب والكعب كباية) كان الفتي ينفذ وصية لم تصله بعد من ناصر، بالمثابرة، وحين وصل العاشرة متفوقا غاية التفوق في دراسته، كان قد أصبح (ابن سوق) في عمله، يستطيع تحديد الزبون وكيفية التعامل معه، فإن كان ريفيا، استفزه بقوله (مع السلامة يا أستاذ، المحل اللي جنبنا فيه بضاعة تنفعك، ماهو كل برغوت علي قد دمه) يعود الفيل لذكريات الطفولة، تلك التي كان يعيشها بكيانه، يقرأ بشراهة، ويذهب للسينما، ويصيف في رأس البر القريبة من بلده دمياط، ويعود لصديقه محمد علوش ليكتبا معا بدايات ما كانا يظنانه شعرا، كان شقيا وكان المعلمون يسامحونه لأنه " يتيم " فإنه شقي ولا يحضر المنقلة ولا "البرجل"، ولا يحفظ سورة البقرة ويكتفي بسورة " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " كما يقول قد تجرأ ذات يوم وأخذ كراسة شعره لصاحب مطبعة طيب في دمياط، طالبا منه طبع كتابه، لكن الحاج نصار - صاحب المطبعة - اعتذر لهما، ومنح كل منهما قرشا كاملا بصور الملك فاروق. سنوات الغلب والغناء تخرج في مدرسة المعلمين العليا، الأول علي الجمهورية، فقر الأسرة لم يترك له اختيارا، فقنع بالتدريس بمدرسة الإمام محمد عبده الابتدائية بدمياط، لتبدأ رحلة غناء الذات في الظهور، كان أثناء الدراسة قد بدأ يكتب مسرحيات يمثلها زملاؤه، ويشترك في مسابقة الملاكمة ، ومسابقة الوثب، وبدأت رحلته مع الشعر، وكتب مخطوط ديوان " المطبعة " عام 1996م وطبع بشكل بسيط، وزينته رسوم الفنان السيد الخميسي الذي صار بعد ذلك أستاذا بكلية التربية بدمياط. ثم توالي صدور دواوينه : " الخيول " سنة 1982، " ندهة من ريحة زمان " سنة 1991، "ريحة الحنة "، سنة 1998، " نتهجي الوطن في النور "، أبريل سنة 2000، وأخيرا " سجادة الروح"، مايو سنة 2000. لكنه ذات يوم أرسل قصصه للدكتور عبدالقادر القط، ونشرها له في إبداع بدون سابق معرفة، وحين التقاه في مؤتمر العقاد بأسوان، وسمع منه القصيدة، همس للدكتور سمير سرحان قائلا: هذا سارد ممتاز .. في مسألة السرد بجوار أشياء كثيرة جدا يجيدها سمير الفيل، يحتل السرد المقام الأعلي لديه، لكنه عمل فترة جيدة بالصحافة الأدبية بالسعودية، وكتب عدة مسرحيات، وكتب عشرات الأغنيات لأعمال مسرحية مهمة، منها مثلا «خشب الورد» لعلي سالم، له عدة كتب تحوي لقاءات مع كتّاب معروفين وغير معروفين، وهذه فضيلة أخري مهمة وأساسية في شخصيته، انحيازه المطلق للواعدين، ومساندته الدائمة لعشرات الكتّاب والشعراء، موهبة واضحة جدا في شخصيته، حيث يشكل مؤسسة ثقافية حقيقية متكاملة، بداية من تشجيع الكاتب الشاب، ثم توجيهه بيسر وحنو، ثم الاهتمام به ومساعدته علي نشر أعماله، ثم السعي بهذه الأعمال للمناقشة عبر مؤتمرات.. إلخ وبجوار سمير الفيل في دمياط جيش من المبدعين المخلصين ربما نتذكر منهم محسن يونس وفكري داود، ومحمد شمخ ومحمد مختار، وناصر العزبي ومحمد علوش وعشرات غيرهم نعود لسردياته، وقد أصدر الأعمال السردية الآتية : رواية "رجال وشظايا، ". خوذة ونورس وحيد، " قصة قصيرة "، أرجوحة " قصة قصيرة ". كيف يحارب الجندي بلا خوذة ؟، "قصة قصيرة، ظل الحجرة "رواية "، انتصاف ليل مدينة "، مجموعة قصصية "، شمال .. يمين "، مجموعة قصصية، مكابدات الطفولة والصبا،" مجمـــوعة قصصية، صندل احمر، مجموعة قصصية وميض تلك الجبهة، رواية قبلات مميتة، قصص، هوا بحري، قصص.. هذا الولع بالسرد يأتي مع شعوره بأنه يعيش من خلال السرد حياة أخري، يتمني لو صار راقصا للباليه، ولأنه لا يستطيع، فليفعل ذلك من خلال السرد، هو تربي علي كتابات جيل عبقري، التقط من كل كاتب أميز ما فيه، يقول (في العربية توقفت أمام نجيب محفوظ الأستاذ بحق، وتأثرت بلغة عبدالحكيم قاسم، وبعذوبة يحيي حقي،وبانسياب الجملة عند ابراهيم أصلان، وباحتشاد الحكي الشعبي لدي خيري شلبي، وفي تناول عوالم القرية عند سعيد الكفراوي، وبفرادة الطيب صالح، وبترددات هدي بركات، وبرقة مالك حداد المترجم عن الفرنسية، وبعوالم الأسطورة عند ابراهيم الكوني، وبثقل التاريخ عند عبدالرحمن منيف وصولا إلي زيد مطيع دماج وأضرابه. احتاج مقالا كاملا لسرد الجوائز التي حصل عليها سمير الفيل في كل مجالات الإبداع : الشعر والقصة والرواية والمسرح والغناء .. لكن حضوره الثقافي المتألق أكثر اهمية من كل هذه الجوائز. حياة أخري أخيرا ها أنت يا عم سمير فوق الستين تمرح كما تشاء، لا يتذكر كثيرون معجزتك الكبري، تواجدك اللافت علي الشبكة العنكبوتية، و"توقيعاتك " عليها، يقول مثلا (بعد الضغط والسكر .. ابتلانا الله بوزير داخلية لا بيحل ولا بيربط) ويقول (كل رئيس مصري لقب يعرف به، فمثلا جمال عبدالناصر الزعيم الثوري، والسادات الرئيس المؤمن، فما هو لقب حسني مبارك المقترح ؟ ويقول (ثمة أناس يسعون لمنح السلطة لمن يقيدهم ويسلب إرادتهم ويفرض عليهم الوصاية إلي الأبد..) أسأل العم سمير عن الزوجة، أم شادي، فيقول (تعرفت عليها في ظروف بهيجة ـ حوالي سنة 1978ـ إذ كنت أحضر فرح واحد من أصدقائي الذين تعرفت عليهم في نادي السينما وله اهتمامات ثقافية هو محمد أبوطايل. رأيت فتاة ترتدي ثوبا من القطيفة لونه بنفسجي، وكانت تضع وردة من نفس اللون قرب العنق . تأملات ملامحها، وأعجبتني الوردة، وتمت الخطوبة بنجاح عظيم حيث كنت في رتبة " مفلس قدير"، وبعد ثلاث سنوات حدث الزواج. أمرأتي ذكية، ومدبرة، وهادئة حفيدتي نور فهي آنسة عصرية عمرها ثلاث سنوات تميل لأفلام الكارتون والأغاني الخفيفة وهي ذكية وناقدة بامتياز وكثيرا ما تعاكسني فلو سألها أحد الحضور: فين جدك؟ تشير لجدتها وتبص لي بصة ذات مغزي وتغرق في الضحك. منذ أسابيع صدر كتاب (سمير الفيل : أنشودة نورس وحيد) كان الكتاب الذي شرفت بإعداده تحية من احبابه الكثيرين للعيد الستين للرجل، تطوع الناشر بتحمل جزء كبير من تكلفة الطباعة تقديرا لسمير الفيل، وشارك فيه كثير من كتاب الوطن العربي المتصلين بالإنترنت، في آخر زيارة له بمنزله، وكنا صحبة كبيرة، أعد لنا بنفسه الشاي وقدم الفاكهة والحلويات، وأسر لي - بشكل شخصي - بوجود لحم وكوسة، فقلت له : لولا أنها كوسة.. وضحكنا. سمير عنقود الكبرياء ومشكاة الطيبة، وقنديل الوداد ، طفل الوجود الجميل القديس في حبه للآخرين، في عطائه الخرافي النبيل، سمير الفيل المبدع الذي يسكب في كافة كتاباته قدرا عجيبا من الشجن يليق بفتي مبكر اليتم مثله، طبيعة ترسخت فيه، هو شجي وحده، ضحوك مع الآخرين.

بقلم إبراهيم محمد حمزة

>للاطلاع على المقال من المصدر إضغط هنا<

العامية المصرية ترتكب جناية اسمها المقاومة

العامية المصرية ترتكب جناية اسمها المقاومة

إبراهيم محمد حمزة ـ جريدة القاهرة : 31ـ 01 ـ 2012

يبدو طبيعيا جدا أن يشعر كل مبدع بأنه تنبأ بالثورة، وحذر منها، وتوقع حدوثها، وصور وقائعها، فالمبدعون في الأصل بشر كالآخرين، ولذا يرون ويتأملون، ويتوقعون، ولكن التأمل الواعي والبصيرة المخلصة قليلا ما تتوفر لشاعر، مثلما توفرت لسيد حجاب، وربما يكون مرد ذلك لطبيعته التي تميل للتأمل، حيث لا يجري وراء قصيدته - كغيره - إنما يتأمل ويدرس ثم يبدع، وربما يعرف عشاقه جميعا قوله - والذي كان وقتها لا يصدق وقت توقيع معاهدة "كامب ديفيد"، حين قال : خايف لو فقت ليلة النصر / ألاقينا كسبنا سينا / بس خسرنا مصر. ثم بدأ حجاب يرتدي أقنعة شخصياته الدرامية، وينطق بوجع المجتمع، ممررا فكرة ثائرة أو مقاومة، ومنبها في حين آخر لفعل التغيير، وأهمية حدوثه بشكل دائم، حتي لا يحدث زلزالا مدمرا: حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا وتغشنا المرايات تشوش وشوشنا وتهيل تراب ع الهالة والهيلمان قبل السقوط تمثل قصيدة "قبل الطوفان الجاي" حالة من التمرد علي لغة وصياغة حجاب، وذلك رغم احتفاظه بخطابه الأدبي وبعض من سبل بنائه الشعري، يبدأ بقوله: تاج راس سلالات الجهالات الطغاة الصغار.. ذوي المقامات والمذمات اللصوص الكبار... أصحاب جلالة العار أصحاب فخامة الانبطاح والسعار.. أصحاب سمو الخسة والانحدار.. أصحاب معالي الذلة والانكسار.. هذه الغضبة التي يمارسها " حجاب " ضد الطغاة، تأتي - كعادة حجاب - شاملة لا تبقي ولا تذر، تأتي متعالية علي الرضوخ لانحدار الواقع، إنما يمارس تشوفه وتأمله، وإنسانية قصيدته، يقول : ابن آدم .. زيه زي الحمار بين "مول" و"مول" يرمح يشبرق عينيه شاري دماغه.. وروشنة طحن نار وليل نهار.. منهار.. متنح سفيه وعمره لحظة طيش.. وشرفه هزار عايش حياة أغوات.. بأخلاق عبيد هذه غضبة عامة من حجاب، يداعب فيها جمهوره العاشق لموسيقاه الشعرية المبهرة (نهار /منهار .. حياة اغوات) لكن هذا الدمج اللغوي الملفت، يقع في منطقة لم يعتدها قارئ حجاب عبر دواوينه السابقة ( في العتمة - نص الطريق - أصوات، وقبلها «صياد وجنية»). لذا فهذا الغضب الشعري، ربما أعادنا للحس الشعبي الذي بني "حجاب" مجده عليه في " صياد وجنية " عام 1966م، لذا نجد قصيدته تبدأ بالتحية كعادة الشاعر الشعبي. (من بعد حمد الله ..وبه نستعين / وباسم ناسنا الطيبين أجمعين) الفضح والتثوير إنها التعرية التي يمارسها حجاب هنا، ليجعلها متفتحة علي الكون كله، هو لا يحاكم نظما مهتزة وعروشا منهارة فقط، إنما يضع شهادته علي كون كامل، إنه يتدرج بالقارئ - بعبقرية - من التنوير إلي التثوير، عبر الخديعة البديعة التي يسحب سيد حجاب القارئ من السهولة والوضوح إلي عمق الصورة بسوادها، وبقدرته الفذة علي تشوفها .. إنه عاتب بشدة علي التعالي عن المشاركة في مصائب الآخرين (وإن حشت النار عشة في قندهار/ يقول في باله: أفغانستان بعيد..!/ وكل ناسها..إرهابيين أكيد / ويبلع الأخبار .. بشاي الفطار / وحين تشب النار وتشوي الصعيد / ويهل شيخنا وأبونا إيد حاضنة إيد / وكل واحد له حدا التاني تار / يقول مثقفكوا السلامي الانهزامي البليد : / ده خلاف بسيط واتسوي بين جار وجار) . يستكمل حجاب تطوافه كمواطن عربي، بكل مشكلاتنا، ويضع بصمته وفكرته حول كل الأمور، ويتحدث عن نصر الله وجيشه، حديث المحب الموله، لكننا سنتعجب من التبسط اللغوي النادر في شعر حجاب، والذي يصل به لتجميل التعبير الشعبي المضمخ بالسخرية كقوله (رغم اعترافات العدو بانه كلها عالقفا!.. تلاتين سنة.. وانتو علي زحلفة) حتي يصل الحال بحجاب إلي الثورة الكامنة الكاملة، من خلال خطابه الشجاع لكل الحكام الخام الجاهلين يقول بوضوح يا أجبن الحكام.. ياغرقانين في طين جهالة وعطن.. مفيش سلام بين بندقاني وحمام.. والديب مازال ديب مهما غني ورطن.. يا أجهل الأصنام يامهرولين بره التاريخ والزمن الاستيطان.. عمره مايبقي وطن . إن قدر السخرية التي يمارسها الشاعر، تؤكد قدرته علي الارتقاء بالغضب، والسمو به إلي آفاق السخرية النبيلة البديلة للانفجار، وانظر مثلا وصفه البهي (وتفكروا ليه؟ وانتوا ماتستروش / حبة ديول فوق كروش/ وعشوش فاشوش ع العروش ) وينهي قصيدته بقوله ( جاي الطوفان يا خال / شيء لا خطر علي بال / ولا يطوله ولا يحوطه خيال / طوفان بقي مش سيل ولعب عيال ). هذا التبسط اللغوي والبنائي وهو يتكامل ويتصل بدعوات جادة للعودة للجماهير من خلال شهادات لأدباء كبار مثل يوسف القعيد وخيري شلبي وبهاء طاهر والبساطي، ذلك كله يؤكد سريان تيار - له معارضوه وله مؤيدوه بلا شك - تيار يتأكد بجوار تيارات أخري . في هذه الإطلالة العابرة علي شعر العامية في الإقليم، لا ندعي الإلمام بتيار شعر العامية بشرق الدلتا مطلقا، فذلك يحتاج بحوثا، ولا حتي بالمشهد الأساسي، إنما هي إطلالة انتقائية محكومة بتوفر الدواوين لدي، وكذا المساحة المتاحة ... الأعمام يصرخون في ديوانه "جمر مطفي في حرايق الروح " يمنحنا سمير عبد الباقي حالة من الاندهاش والغضب معا، يترك قارئ ديوانه في حالةٍ تختلف عن حالته قبل القراءة، رافضا أن يكون غافلا لحظة: (كرهت م القلب إني أروح في غفلة نوم وأنا اللي من صغري كاشف ما تململ في العيون ) ولهذا يهدي إحدي قصائده - رجعوا التلامذة - إلي تلميذات المنصورة "اللي شالوا أولادها علي كتافهم علشان يردوا للوطن القلب بهتافهم " القصيدة - كغالبية شعر سمير عبد الباقي - صرخة محفزة للغضب والرفض، وانتباهة باكرة لروح المقاومة لدي الأطفال : (يا صوتهم العبقري الطالع من التاريخ / ومن حواري الألم / صحي اللي ناموا.. اطمأنوا لقلة الحيلة / وفعل الزمن) هذا التحريض الشعري الذي مارسه " عبد الباقي " كشاعر مؤسس لتيار مخلص للمعني علي حساب التشكيل الجمالي، هو نوع من الإيمان بدور القصيدة في التحريض والدفع عبر عدد هائل من الدواوين، ظل متناميا لدي شعراءٍ من جيله وما تلاه، فنجد سمير الفيل في "سجادة الروح " الصادر عن إقليم شرق الدلتا، يمد ألمه إلي أقصي آفاق الإنسان ،ثم يجمعه مرة أخري إلي ألم الذات، لكنه الموت الذي يحاصره، والذي يؤكد الشاعر في كل سطر شعري إصراره علي المقاومة، مثلما يصر علي مجابهة أوجاع الناس لطرحها لا تجاوزها: (ليه الفلاحين الرعاع /كانت جلابيبهم زرق / مع إن كل شيء حواليهم إخضرار / ليه مش لاقيين الفطار .... ع الغفر تندفع الفِردة / دخل العيد ده / محدش عمل كعك ولا فطير) وتجارب سمير الفيل تتعدد بشكل لافت حتي تكاد كل قصيدة تشكل عالما قائما بذاته، ذلك قبل أن ينأي الفيل بنفسه عن مضمار الشعر المهلك، ليقبع راضيا مرضيا في جنة السرد . لعبة المراوغة شعر إبراهيم رضوان مرحلة راقية ومتألقة من شعر العامية المصرية المحمل ببذور الغضب في أشد حالات كبتها، غضب ساخر نادر نافر بين السطور، يري نفسه مجنونا ليسخر من عقلاء الرضي والقبول، واستكانة الصامتين الخائفين الخانعين : ( سيبوا عقولكوا الفاضية / روحكوا الراضية واملوا في البطون /....../ مجنون وبارفض عقلكوا / يا مفصلين بدل النفاق علي قدكوا). والمراوغة وسيلة يقدم بها إبراهيم رضوان كافة حوائط صده ورفضه ومقاومته، بل ربما بدأت المراوغة من عنوان الديوانين الذين بين يدي (شعر إبراهيم رضوان ) و(أشعارإبراهيم رضوان ) أولهما عن ثقافة الدقهلية وثانيهما عن سلسلة أصوات أدبية . حيث يرتفع دائما بقصيدته من أقصي حالات التخفي إلي أشد حالات الوضوح في إقرار المقاومة سبيلا: (عيني عليكم يا جواعة .. يا شباعة.. يا جموع / لأ مش مهم تجوع / وبرضه مش مهم تكون فقير / لازم تكون راجل ومفكوك الإيدين / لازم تكون راجل ومفتوح العينين). ويكاد شعر إبراهيم رضوان أن يكون تجسيدا صريحا لحالة الخوف، الخوف العام من الماضي والحاضر، ومن البر والبحر الملآن بالقروش والوحوش ،ولذا يفرض هذا الخوف بالتبعية تحول الخائف إلي رافض، إلي مقاوم، ولا أظن هناك غضب واضح ومباشر وقاس مثل ما رأيناه في " النقش فوق الحائط القرميدي " التي كتبها شاعرنا في المعتقل في الستينات، حيث عاش تجربة الإجهاز التام علي إنسانية الإنسان، وهو ما صبغ ديوان " أشعار " والذي يصل في النهاية إلي ( مين اللي حط السيف في بقبق عيني ؟ / مين اللي خلي بكره نظرة في نعشي). الغربة في ديوان "غنا الشوارع " ديوان مميز لشاعر مميز، وأهم ملامح تجربة فتحي البريشي، القدرة الفذة علي الوصول للناس من خلال السيطرة علي أدواته كشاعر قادر علي التوحد مع الناس، وتفترش الغربة أرضية الديوان الصادر عن " أدب الجماهير " حتي صارت الرغبة في مقاومة الموت اغترابا ؛ أكبر هموم الشاعر، من خلال البوح والمكاتيب (الرسائل ) وقد سعي الشاعر لفضح الواقع المر الذي نادرا ما استطاع الشعراء التعامل معه بهذه البساطة والعمق والجرأة. ( وبتكويني الضحكة الساخرة / لمّا باكون في لسانهم كلمة / يعني ساعات ينادوني يا مصري /كأنها شتمة /....../ أيمان بالله / المصري هناك مكروه مكروه / وإن كان المصري ملاك طيب / او حتي إله ما يحبوه). وحين يتخلص الشاعر من آلام الغربة، ينتقل علي دور الشاعرالرسالي، حيث الكلمة مسئولية يقولها، ولذا فهو يؤكد أن المقاومة هي سبيله ،وهو يدرك ما ينتظره (دبح المغني حلال ) لكنه مع ذلك لا يخشي، ويستمر في سبيله ( أنا قلت آهتي / وأناعارف حلال دبحي / ولا خفت م الموت / لأن الموت دوا جرحي / واحلف يمين الله / إني في جراح الجميع / ما عرفت مين فتحي) . ردح .. الغلابة في "ردح شعبي " للشاعر سمير الأمير - الصادر عن كتاب المرسم - يتجلي وضوح تام للهدف، حيث يتضافر السياسي والفني في تحاور وتجاور بهي، يتصالح الشاعر مع سامعه في تجربة ثرية واضحة، وفي سيطرة تامة علي الفكرة التي يطوعها ببراعة لمقتضيات الشعر، فالردح هنا مدخل المقاومة ووسيلتها، ولذلك يبدأ الشاعر الديوان معليا من شأن الموضوع علي فنيات قوله (أنا باعتذر للشعر قبل ما أقول / اللي هاقوله ده مش من فنون القول / ده ردح شعبي من تراث القهر / من كتر غلب الفقير وطول سنين القهر) . وهو ما يدفعه لتأمل تجربة جليلة عظيمة للمقاومة العربية التي قادها أطفال فلسطين الحبيبة، وهم من أطلق عليهم الشاعر "ملوك تانية ابتدائي " وهنا يرتفع سمير الأمير بقضاياه إلي قضايا الأمة، ويعود بها كيفما شاء إلي آلام الذات، جامعا همومه في الرغبة في الخروج من فقر الروح إلي رحابة الشعور بالكرامة والصدق ... وفي كل الحالات يظل مخلصا لفكرةالمقاومة عبر الكلمة ( ياقلب شاعر في مسيرة الجامعة / ياخدك حماس الشعر / تهتف كأنك حي / كل البلاد تسمعك / ومصر مش سامعة / مخنوقة بين ضلمتين / وإنت بتنزف ضي / نص الوطن عسكر / ونصه عبيد / بتخبي روحك ليه تروح لبعيد) . أما علي عبدالعزيز فقد جمع بين رضي الدراويش وغضب الرجل الشعبي في تكامل عجيب، فجاء ديوانه " آخر حدود الوطن " الصادر عن إضافة، جاء بالفعل "إضافة " لتيار العامية الهادر، حيث يندر شيوع النفس الصوفي في العامية المصرية بعد شهقات فؤاد حداد وبعض تراتيل سيد حجاب، في " المريد " نجد ( البكا تسابيح / هتسيح في أرض ربك الواسعة / تسعي من العشا للضحي /وتزور جميع الأضرحة / بالفاتحة والصلوات / والذكر في الحضرات). لكن ملامح الغضب والثورة تبدو محجبة علي استحياء جاءت في شذرات خفية (ومين سمّا الوطن لينا / وفيك مشطوبة أسامينا) . وهو يصر علي هذه الفكرة عبر أكثر من قصيدة مثل "وطن مش بتاعنا "، لكنه في قصيدة بهية جميلة هي "أبويا " يناقش طبيعة الرفض والغضب عند الأب، وكيف يملؤه الرضي، فـــــــ " ينصح عياله / إذا هب ريح يسدوا البيبان " لكنه رغم هذا الرضي والخنوع، مليء بالثورة والغضب، لكن الشاعر يطرح غضبه بشاعرية ماكرة خبيئة قائلا: (إذا حد يدعي / علي الظالمين / يهلّل يكبر / ويصرخ آمين) . نساء الرفض والثورة: في ديوانها " بيتك بيتك " تبث فاتن شوقي روحها الساخرة في عدة قصائد هادرة بالغضب، واثقة من قدرة الأمة التي تنتظر أي " منتظر " يوقظها لتعود القدس، ويعود الحق والأمل: (أنا ممكن أصحصحني من النوم / وأعدي حدود الخوف واللوم / والخطوة الصادقة تدوي بعنف ودان القوم / بس أنا مستني اللي يزحزحني يقول لي ياواد ما تفز تقوم). أما في قصائد ما بعد الثورة، فقد اختارت ركنا قصيا بعيدا عن مضمار المألوف والشائع، فعبرت عما يجيش بصدر الجميع، بصوت مختلف، وهو ما ضمن لها تفردها، فقد جاءت قصيدتها " اعترافات بلطجي الثورة " لتصطنع دراما شعرية بديعة، راسمة صورة لنفسية البلطجي ودواعيه: (ووهموني... / "بإن دي غُمّة هاتعدي / بضربة سيف ومن يدّي / خيوط السُلطة محبوكة / علي روح الفقير فيهم / وإن الطبخة مسّبوكة / وباقية كل كراسيهم" / عَصّفتْ كريح مع جَمَلِي / وكان أملي .. / تدّب الفوضي في "التحرير " / بلا ثورة ... بلا تغيير / ولمّا دخلت في الميدان .. / رَأِيتْ فلاح في إيد عامل في إيد دكتور / بؤر من نور .. / فراشات حُور.. / تصب المية بصليبها / اللي يتصدي ... لبلطجتي / لمسلم لجل يتوضا. ولا شك أن شعر الثورة يستحق دراسات كثيرة، مثلما يستحق وقتا لالتقاط الأنفاس.

بقلم إبراهيم محمد حمزة