«زينب».. وصاحبها البرجوازي العفيف

«زينب».. وصاحبها البرجوازي العفيف

إبراهيم محمد حمزة ـ جريدة القاهرة :9 ـ 2 ـ 2010

تظل "زينب " في الذاكرة الأدبية الأشد سطوعا، ليس بسبب ريادتها فحسب، بل أيضا بسبب ما أشيع وأذيع عنها وقت كتابتها، وتأثر "هيكل " بروسو في رائعته " جولي " وتملصه منها وكتابة " بقلم " فلاح مصري " لكنها في النهاية عمل تأسيسي مهم، حتي وإن غادر دكتور محمد حسين هيكل بوابة الفن الروائي بقية حياته إلا قليلا ولأهمية الرواية توزعها «القاهرة» مجاناً مع العدد القادم الذي يصدر في 16 فبراير 2010.وعلي قدر عمق رؤيته لمجتمعه، يمتلك الدكتور محمد حسين هيكل بساطة مذهلة في التعامل مع أبجديات الحياة المعقدة، كما يمتلك ثراء روحيا مذهلا، فقد خاصم السلطة فارتمت هي في أحضانه، ففارقها فعادت إليه متيمة به، ثم انتهي به الأمر بلا وزارة وبلا نيابة وظل بقيمته الأولي.. كاتبًا.ولم يبايع هيكل مرة علي قضايا أمته رغبة في مصلحة شخصية أو غير ذلك، بل كان عفيفا، وقد وقف يوما في الأمم المتحدة يلقي خطاب مصر، في 28/10/1946م فقال : " أما نحن فنريد لهذه الهيئة أن تكون حكما بين الأمم الكبري والأمم الصغري، لا لمصلحة السلام فحسب، بل لمصلحة العدالة والأخلاق الدولية "وقد أثار الخطاب ولهجته الشجاعة ردود فعل عجيبة حتي ظن البعض انه عائد لتشكيل الوزارة، ووصل هذا الكلام للملك فاروق، الذي استدعاه طالبا منه تفسيرا، فرد هيكل بحكمة وبلاغة : " إذا كانت الدولة تصدق أني اجهل الآداب السياسية فإني لا أكون جديرا بمركزي، يا جلالة الملك إن الساعة التي أعتز بها هي عندما أجلس إلي مكتبي وأحمل قلمي للكتابة "صاحب " الفضيلة "ولد محمد حسين هيكل في 20 أغسطس عام 1888م في قرية كفر غنام التابعة لمركز السنبلاوين دقهلية، كان أبوه حسين أفندي سالم هيكل سيد قومه وعشيرته، وكانت رياح البرجوازية المصرية قد بدأت في الهبوب، لتخلع ما تجذر في أراضيها من اتراك حلبوها حلبا، وتمنح بعض المصريين راحة مؤقتة من عبودية طويلة، فبدأت طبقة الملاّك الوطنيين، ومنها والد هيكل، الذي دفع بابنه مبكرا لكتاّب الشيخ إبراهيم جاد، فحفظ كتاب الله ثم انطلق إلي القاهرة ليلتحق بمدرسة الجمالية الابتدائية، ثم التجهيزية ثم البكالوريا عام 1905م وهنا تبدا أول لمحة ضياء باهر للعلامة احمد لطفي السيد في حياة هيكل، حيث جاء لطفي السيد من " برقين " إلي كفر غنام (والقريتان متقاربتان في مركز واحد) جاء معزيا في جد هيكل؛ ودار الحديث عن الدراسة التي عزم هيكل عليها فأجابه : الهندسة، فأشار لطفي السيد عليه بدخول الحقوق، بعدما وعده والده بالسفر إلي الخارج للحصول علي الدكتوراة.وهناك يكتب يوميات باريس، يدون فيها ما رأي من مشاهد أثرت فيه، وكأن رفاعة بعث من جديد؛ ليقتحم المجتمع الفرنسي مرة أخري؛ لكنه يحتفظ بكراساته فلا ينشرها، فقد غرق في الحنين لمصر؛ فتجلي هذا الحنين في درته الخالدة " زينب " فعاد إلي مصر برسالة دكتوراة عن " دْين مصر العام " وروايته " زينب " وكلاهما في حب مصر.عِجلة عاشورويبدأ هيكل حياته العملية بمكتب للمحاماة في المنصورة، ورغم ان المحاماة وقتها لم تكن لتدفعه لمواصلة دراسته حتي الدكتوراة، ولكن طموحه الأدبي الذي لم يفارقه يجعله يذهب لصاحب دائرة من الدوائر الزراعية هو "البدراوي عاشور" ليقترح عليه، أن يخصص جائزة كبيرة باسمه في الأدب تكون مشابهة لجائزة نوبل، ويرد عليه "عاشور" قائلا: "كنت اظنك يا أستاذ جئت تعرض علي بمشروع لأستثمر أموالي في تربية الأغنام والمواشي".ويعلق هيكل: " وهكذا أخفقت في إقناعه، وخسرت وظيفة محام لدائرة " البدراوي " فقد أبيت أن أربط مستقبلي بعجلة عاشور ".يسار الأحراروفي عام 1917م ينتدب "هيكل" للعمل بالجامعة، وكان في هذا الوقت يكتب في "الجريدة" وفي "الأهرام" لكنه تمرد علي قيد الوظيفة واستقال عام 1922م وكانت الثورة الكبري قد قامت، وكان هيكل قد أقام هو الآخر في القاهرة، وكان قد تزوج من " عزيزة هانم رضا "كريمة عبد الرحمن رضا باشا وكيل وزارة العدل، وكانت حقا نعم الزوجة لأنها تربت في بيت يعي السياسة وأحوالها ومطالبها، فكانت خير عون له، ويذكر انه لما حصل علي الباشوية رفضت مناداته بلقب الباشوية مفضلة عليه لقبه العلمي "دكتور" وقد رزقه الله تعالي بابنه البكر "ممدوح" لكن ارادته تشاء أن يحرم من ولده، ويأخذه الحزن القاتل إلي القلم، فيخرج كتابه " ولدي " يبث الورق لوعة فقد الابن البكر، وللدكتور هيكل ولدان :حسين وأحمد، وخمس بنات (عطية الله / هدية / بهيجة / فائزة....هذا عن حياته الأسرية، أما حياته السياسية فكعادة السياسة تقلبت به ومعه كثيرا منذ التحق بحزب "الأحرار الدستوريين" وكانت مصر من وقت السماح بوجود الأحزاب 1907م قد تنامي العمل الحزبي بها، وتنوع فكان هناك الحزب الوطني وحزب الأمة وحزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد وحزب الشعب وحزب السعديين وحزب مصر الفتاة إلخولم يكن الحزب الذي اختاره هيكل خاليا من العيوب بالعكس فقد وصفه الأستاذ الرافعي بأنه حزب لم يقم علي اكتاف الناس بل خرج من رحم القصر، كما ذكر العقاد أنه "عورة" في جسد السياسة المصرية، ولكن هيكل كان متزنا تماما في علاقته بحزبه خاصة وهو رئيس تحرير جريدة "السياسة" التي تعبر عن الفكر الحزبي بعمق وتدافع - كما يفترض - عن توجهاته، بحيث من الممكن ان تقول عن "هيكل" كان يسار الحزب وليس ببعيد ما ذكره الأستاذ صبري ابو المجد في كتابه "سنوات ما قبل الثورة" ج4واقعة معارضة " هيكل " لرئيس حزبه، حين كتب هيكل مقال عنف صريح، بعنوان : "نريد ائتلافا خالصا وأساس الائتلاف الخالص الصراحة" وكان يشير إلي محاولات الوفد إسقاط الائتلاف الوزاري الذي يشارك فيه الأحرار الدستوريون؛ وقد أحدث المقال ضجة جعلت رئيس الحزب -محمد محمود باشا- يطلب من هيكل أن ينشر له مقالا يشير فيه إلي ان رأي هيكل لا يعبر عن الحزب، فرفض هيكل بشجاعة نادرة، وذكره الباشا بانه صاحب شركة السياسة التي تصدر الجريدة، فقال له هيكل : "إذا كان صاحب السياسة هو الذي يطلب النشر فانا موافق بشرط ان انشر استقالاتي مع مقال معاليكم"فرد عليه محمد محمود باشا قائلا : "لا تنشر كلمتي ولا تستقيل" وخرج. يا هَيكَلُ.. بحقِ إنك أهبلُ :وها هو كرسي الوزارة يأتي الرجل بلا دعوة ولا سعي ولا اشتياق، وكانت البداية حين عين وزير دولة بوزارة الداخلية في وزارة محمد محمود باشا الثانية في 31ديسمبر 1937م، ثم يتولي وزارة المعارف بعدها فيضع اساس اللامركزية وينشئ المناطق التعليمية ويبدأ الاهتمام بالمناهج؛ وتقع الحرب الثانية وتتغير الوزارة، وتاتي وزارة حسن صبري ويلي فيها هيكل وزارة المعارف إلي جانب وزارة الشئون الاجتماعية، لكنه لم يكن عاشقا للعمل الوزاري ويفضل أن يتولي قيادة مجلس النواب حتي عام 1944م كما اختير سنة 1941م نائبًا لرئيس حزب "الأحرار الدستوريين"، ثم تولي رئاسة الحزب سنة 1943م، وظلَّ رئيسًا له حتي ألغيت الأحزاب بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952.ومن طرائف الأحداث أنه في فترة توليه رئاسة مجلس النواب، اغري البعض الشاعر حسين شفيق المصري بكتابة قصيدة حلمنتيشية يسخر فيها من هيكل، فكتب يقول :"يا صاحبي يا هيكل.. بحق إنك أهبل"وقامت الدنيا ولم تقعد وقبض علي الشاعر وسجن وجاء الأستاذ حافظ محمود متوسطا لدي هيكل للإفراج عن الشاعر، ففوجيء ان هيكل لا يعلم اي شيء عن الواقعة، واتصل هيكل لحظتها بالنائب العام وقال له أنه لم يطلب هذا من أحد وبدا حافظ محمود في السعي حتي اكتمل خروج الشاعر من السجن وقد لجأ إلي القول إنه كتب " بحق إنك أهيل " وليس أهبل.جبريل يبري قلم هيكلونأتي سريعا لكتابته عن الأحباب؛ والأحباب هم الرسول وأصحابه؛والعجيب في حياة هيكل - كمبدع ومفكر - أن "الأساسي" في حياة هيكل يتواري في التأريخ له، بينما "الاستثنائي هو الأبقي في حياته، وأعني السياسة التي ابتلعت عمره ولم تبق إلا وقتا قصيرا للأدب والفكر الذي أعطي لنا قيمة هيكل في حياتنا المعاصرة، و"حياة محمد" درة التاج في" إسلاميات "هيكل بلا شك، لأنه قدم فيها منهجا جديدا حين اعتبر القرآن الكريم افضل مصدر لدراسة سيرة النبي عليه السلام، ولذا خلصت الدراسة لوجه الحق والحق فقط كما قال هو، فقد قرأنا لمن قال عن حياة محمد" وإنه ليخيل لي وانت تكتب أن جبريل يبري لك قلمك ويصب المداد"وفضلاً عن كتاب "حياة محمد" فقد كتب "الصديق أبو بكر" و"الفاروق عمر" كما خطط لكتاب "بين الخلافة والملك" ولم يمهله القدر لإكماله، حيث توفاه الله تعالي في الثامن من ديسمبر 1956م بعدما ترك كرسي مجلس النواب، ليجلس فوق كرسي الخلود.

بقلم إبراهيم محمد حمزة

>للاطلاع على المقال من المصدر إضغط هنا<