أزمة مقتل كليبر .. والفرنسيون حزب وطني!

أزمة مقتل كليبر .. والفرنسيون حزب وطني!

إبراهيم محمد حمزة ـ جريدة القاهرة : 16ـ8 ـ 2011

وأن الفرنسيين لم يكن من عادتهم إجراء محاكمات مشابهة في جرائم القتل؛ حيث لم تكن العدالة شعارهم ولا هدفهم طوال سنوات بقائهم في مصر، متسائلاً عن سبب عدم تشكيل محاكمة للنظر في تهمة محمد كريم قبل إعدامه ، ونفي أن يكون الضرب عادة متبعة في المحاكم المصرية في تلك الفترة كما أدعت المصادر التاريخية الفرنسية، وتصور الباحث للحادث أنه "قام شخص ما بالتسلل إلي حديقة السراي وقتل كليبر ونجح في الهروب، وأراد الفرنسيون الانتقام من أهل القاهرة، إلا أن القادة وجدوا أن ذلك سيسبب لهم مشاكل كثيرة، ولذلك قرروا تجرع الإهانة فالأخطار تحاصرهم من كل مكان، ودبروا مؤامرة لنسبة التهمة إلي شخص آخر يطفئون بقتله جمرة غيظهم وحقدهم، وتصادف أن كان سليمان يسير في الشارع المجاور للحديقة فقبضوا عليه وضربوه حتي اعترف بما أرادوا، أو قل إن شئت لم يعترف، ولكنهم قالوا إنه اعترف، ومن سيكذبهم إذا كانت كل إجراءات المحاكمة لم يحضرها مصري واحد، ولم يلتق مع سليمان أو يحادثه قبل أو أثناء أو بعد المحاكمة أي مصري أو عربي غير الثلاثة الذين حكم عليهم بالإعدام ودفن معهم سرهم . كليبر .. حادث مختلف الحقيقة أنه لا مانع مطلقا لدي المرء من تغيير ما عاش معتقدا إياه إن تبين له بجلاء أنه خطأ واضح وبين ، ولكن من الضروري أيضا التسلح بروح العلم عند الحديث في موضوع بهذا الحجم ، فما ذكره الباحث تساؤلات ، وليست دلائل ، وقد تداولت قصة مقتل كليبر في عشرات الكتب التي بين أيدينا ، بدون أن يتطرق الشك لها ، وقد رأينا قنابل الثوار قد طالت غرف القصر الذي يسكنه كليبر ، مما اضطرهم لترميمه كما يذكر المؤرخ صلاح عيسي في "حكايات من دفتر الوطن " صـ64 ذاكرا أن سليمان الحلبي قد كان وسط العمال الذين كانوا يعملون بالقصر، مندسا حولهم ، واصفا الحوار الذي دار بين كليبر وقاتله، وحين أنهي سليمان ما يريد، مرت دقائق قليلة، بعدها تغيرت الدنيا جميعها، وقرر الفرنسيون - بتعبير الجبرتي - قتل مصر كلها عن آخرها. فهل من يود قتل مصر كلها عن آخرها يؤذيه قتل رجل بلا جريمة وبلا محاكمات ؟ لقد أنكر الحلبي كل ما وجه له من اتهام ، فضربوه - وبتعبير الفرنسيس (كحكم عوائد البلاد ) وينفي الباحث أن يكون الضرب عادة متبعة في المحاكم المصرية في تلك الفترة كما أدعت المصادر التاريخية الفرنسية التي ذكرت أن الفرنسيين لجأوا إلي الضرب في محاضر التحقيق -علي عادة أهل البلاد- لتقرير المتهمين بعد أن أنكروا التهم؛ إذ لم يثبت إطلاقا في تاريخ القضاء المصري أن تم ضرب إنسان في المحكمة. العجيب أن مرجعنا الأساسي - أعني كتاب الجبرتي - يكثر من ذكر حالات الضرب التي تقع من الولاة ، كقوله مثلا (وفيه كثر تعدي أحمد آغا الوالي علي أهل الحسينية وتكرر قبضه وإيذاؤه لأناس منهم بالحبس والضرب وأخذ المال بل ونهب بعض البيوت ) ويقول في أحداث عام 1206م (فصار الآغا يركب الي الرقع والسواحل ويضرب المتسببين في الغلة ويسمرهم في آذانهم ثم صار إبراهيم بك يركب الي بولاق) ويقول الجبرتي أيضا السيد أحمد البدوي بالشرق والسيد ابراهيم الدسوقي بالغرب يقتلان كل من يمر عليهما من النصاري وكان هذا الكلام بمحضر من النصاري الشوام فجاوبه بعضهم وأسمعه قبيح القول ووقع بينهما التشاجر فقام النصراني وذهب الي دبوي وأخبره بالقصة فأرسل وقبض علي ذلك الصيرفي وحبسه وسمر حانوته وختم علي داره وتشفع فيه المشايخ عدة مرات فأطلقوه بعد يومين وأرسلوه الي بيت الشيخ البكري ليؤدب هناك بالضرب أو يدفع خمسمائة ريال فرانسة فضرب مائة سوط وأطلق الي سبيله وكذلك أفرجوا عن بقية المسجونين . والعقاب بالضرب قائم في عشرات المواضع بالكتاب ، ومورس في التحقيقات كثيرا. مع العلم أن القضاء لم يكن مسئولا ، فالتحقيقات لا يقوم بها القضاء، كما هو معروف ، إنما هي كما تشير محاضر الفرنسيين تكونت من عبد الله مينو ولجنة تحقيق عسكرية، ولماذا ذكرت التحقيقات إنكار المشايخ (عبد الله الغزي، محمد الغزي، السيد أحمد الوالي ) ولماذا رأينا الإفراج عن رابعهم ؟!!! ثم أمر ساري عسكر منو إمضاء الدفتردار سارتلون إمضاء الترجمان لوماكا ساري عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية في مصر . المادة الأولي - أن ينشأ ديوان قضاة لأجل أن يشرعوا علي الذين غدروا ساري عسكر العام كلهبر ( كليبر) في اليوم الخامس والعشرين من شهر برريال . إلخ ... وذكر استخدام الضرب إجبار الحلبي علي الاعتراف هي قرينة تأكيد لا نفي ، فلماذا تذكر المحاضر الفرنسية أنهم عذبوا الحلبي ، طالما لم ير ذلك أحد ؟ ولماذا لم يذكروا اعترافاته مباشرة؟ وكيف يتوافق كل هؤلاء ( الأطباء والممرضين والعسكر والمؤرخين والقضاة ) كلهم توافقوا علي رواية واحدة .. أليس هذا عجيبا؟ وأليس عجيبا أيضا ألا يخايل هذا الخاطر كل من تعرض للتاريخ عبر أكثر من مائتي عام منذ سنة 1800م حتي الآن؟ لماذا سليمان؟ لماذا اتخذ الفرنسيون إذن طريقة المحاكمة القائمة علي العدالة الشكلية التي رآها "الجبرتي" في "عجائب الآثار " وتجاوز عنها في " مظهر التقديس "؟ لا يمكن التعامل مع حدث بحجم قتل القائد العام للجيش ، مثل أي حدث آخر مهما كانت قوته ، فقد كان كليبر قد أعاد شيئا من آمال الفرنسيين في الخروج الآمن من مصر ، كان - كما يصفه جوزيف ماري مواريه النقيب بالحملة والذي وضع كتابا حولها بعنوان " مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية ، ترجمته كاميليا صبحي ، يذكر خطاب كليبر لهم أن غرضه الأهم كان ( إشاعة الطمانينة في نفوس السكان ، فقد كان ما حدث في بولاق التي سمحتُ لكم بإشباع انتقامكم فيها حاضرا ببشاعة أمام أعينهم ). أما ما أكده الباحث أن الفرنسيين كانوا يكذبون دوما ، فقد كانوا يكذبون في بياناتهم ، وبها أيضا يهددون ويحرقون ويقتلون ، مثلما رأينا نابليون يوجه رسالة حب ملتهبة إلي مصروشعبها (إنما جئت لأرد لكم حقوقكم ، وأعاقب مغتصبيكم وإني أوقر الله ورسوله والقرآن أكثر من المماليك ) ولكن هذا الحنان لا يلبث أن يتبخر وهو يقرر في نفس الخطاب (جميع القري التي ترفع السلاح في وجه جيوشنا سيكون مصيرها الحرق) . أما كليبر، فكان طاغية بشعا ، وكان مصيره يقوده ، ولم يكن سليمان الحلبي سوي أداة لتنفيذ إرادة عامة، لقد كان إعجاب الجبرتي بالمحاكمة مرتبطا بوقتها ، أو بتعبير مؤلفي كتاب (الحملة الفرنسية والإسلام : بونابرت في مصر ـ هنري لويس وآخرون وترجمة بشير السباعي ) يرون أن ما كتبه الجبرتي " مجرد إدانة أدبية لأولئك الذين يحكمون مصر وقت التحرير النهائي للحوليات ) صـ 506 ويؤكد هنريلويس إعجابه بتصرف وشخصية سليمان الحلبي، خاصة لحظة التنفيذ، يقول ( ويتصرف سليمان بشجاعة ، مرددا الشهادتين وآيات من القرآن ). لا أظن أن الفرنسيين كانوا في حاجة لمحاكمة شكلية ، لقد كان الشعب ينتظر أن " تحترق مصر بمن فيها "، فأنقذهم كون القاتل حلبيا، اجتهاد طيب من الدكتور عماد هلال، لم يكن ينقصه سوي ذكر أن الجبرتي لم ير الحادث ، ففصّـل عماد هلال حادثا ينافس كثيرا كتاب السيناريو في براعته.

بقلم إبراهيم محمد حمزة

>للاطلاع على المقال من المصدر إضغط هنا<