اختار أن يكتب.. وكفي

اختار أن يكتب.. وكفي

إبراهيم محمد حمزة ـ جريدة القاهرة ـ 2012-07-24

علي كثرة ما شاركنا في مؤتمرات ولقاءات لم يتصادف أن وجدت البساطي مشاركا أو مبحوثا أو رئيسا أو أمينا، هذا ملمح مدهش ستجد أثره في كتاباته الغزيرة كما وكيفا، كثيرون من أبناء البحر يكونون هكذا، ومدينة الجمالية التي عاش بها محمد البساطي قبل انتقاله للقاهرة لدراسة التجارة بجامعتها، وقبل أن يستقر به المقام موظفا مرموقا بالجهاز المركزي للمحاسبات، مدينته هذه صغيرة جميلة مشرفة علي بحيرة المنزلة، لن تجد هناك"صخبا للبحيرة"لكنه هدوء يروق للمبدعين، ويدعمهم، أهل المدينة يزرعون أو يصطادون، وكلتا المهنتين تولد الإيمان والصبر، الصيد الذي تستيقظ له فجرا في الشتاء والصيف، وتتسلل إلي الماء لتلقي بشباكك، ويطاردك حرس السواحل صيادين الصيادين بتعبير سيد حجاب - هذه البيئة البهية الواسعة الفضفاضة، ألقت بظلالها علي إبداع محمد البساطي، فكتب ما يتمناه ويريده، ولم يضطر مطلقا للكتابة كما يريد الآخرون . كباره وصغاره "الكبار والصغار"كانت المجموعة القصصية الأولي التي أصدرها البساطي عام 1968م نموذجا للقصة القصيرة المنتمية للناس،لكن برؤية أخري، حيث لم يكن البساطي"يزعم معرفة الحقيقة، إنما كان يغني نصه بالمشاعر العميقة، ويترك للقارئ مشاركته بخياله كما تشير د. لطيفة الزيات، في أول قصة من مجموعته"الكبار والصغار"وعنوانها"مشوار قصير"سنجد أنفسنا أمام الأستاذ السلاموني"حين اقتاده رجلان إلي مكان مجهول ولرجل مجهول، رغم أنهما لا يعرفان اسمه، وهو طوال الطريق يسألهما ولا أحد يجيبه، وينهي القصة بنفس حالة التخوف الدائمة لديه، لكن لغة القص بشفافيتها واقتصادها تعني العمل، أما الحوار فقد عمد دوما للاختزال، اقرأ هذا الحوار مثلا :

ـ إنت يافندي اسمك إيه ؟

ـ السلاموني .

ـ شغلتك إيه ؟

ـ مدرس ..

ـ أفندي ؟

ـ مدرس .

صاح القصير في غضب :

ـ أفندي ؟!

ـ أيوة أفندي ..

ـ السلاموني أفندي .

تبدو قصص البساطي في حوارها العامي حاملة"شعرية لعبت دورا بارزا في خلق حالة الالتباس الشيقة التي ينطوي عليها الموقف"كما يشير د. صبري حافظ في دراسته عن البساطي. نور وظلال الاختيار دوما يكون للكاتب، أن يبقي في قمة النور الباهر الذي يغشي الأبصار حتي يعتاده الناس، ثم ينسونه، ثم يتعجبون مما كانوا فيه، لقد امتلك كتاب وشعراء صفحات أدبية سخروها لما يكتبونه، وفرضوه فرضا علي قارئيهم، ولكن ذلك وغيره لم يجبر القارئ علي الشعور برعشة الفرح الملازمة لقراءة الأعمال الكبري . اختار محمد البساطي أن يكتب وكفي، وفي ظني أن عمله الحكومي بالجهاز المركزي للمحاسبات منحه استقرارا وأمانا، ومنحه أيضا تجربة رائعة في التعامل مع الناس، ولقد كان البساطي منذ فوزه عام 62وحتي حصوله علي التقديرية منذ أيام وهو طريح الفراش، كان قد اختار الأبقي، الإبداع، وليقيم من شاء، لم يختر لنفسه جريدة أو مجلة يكتب لها أعمدة وصفحات، إنما كان تركيزه علي الأبقي، فأخرج مجموعة كبيرة من الروايات ربما لا ننسي منها "التاجر والنقاش، المقهي الزجاجي، الأيام الصعبة، بيوت وراء الأشجار، صخب البحيرة، أصوات الليل، ويأتي القطار..... في روايته الجميلة"ويأتي القطار"يكتب البساطي علي لسان راو طفل، مندهش، وعن بيئة تشبه بيئته، ويستمتع بتلصصه علي البيوت تلصصا فنيا، فالطفل السارد يأخذ الجريدة كل يوم ليوصلها لأبيه، ولكن زوجة الحاج عطوة تستوقفه، هي الشابة الجميلة التي تزوجها تاجر المصاغ بعد وفاة زوجته الأولي، ولذا تنادي الطفل لتنظر للدنيا من خلال جريدته، بعدما حبسها الزوج داخل بيته، وهي جميلة رقيقة "ألمح طشت الغسيل في نهاية الحوش، قرب مسقط النور ومقعدا واطئا بجواره، تقف أمامي تقول شيئا، ويكون جلباب البيت الخفيف مبتلا عند بطنها، لاصقا به، وأجدني أحدق في فجوة صرتها المعتمة، وأسمع حفيف الجريدة عندما تفرد صفحاتها .... وداء زوجها يوما ..." فإن انطلقنا إلي روايته الأخيرة"أسوار"نجده يعتمد علي حادثة حقيقية، اختطاف صحفي معارض، يقول في حوار له إن"شعر رأسي وقف"وقلت إحنا رايحين فين والبلد رايحة فين"وكيف وصلنا إلي هذه الحالة من اليأس والبؤس ؟!! ورغم حرصه علي الوقوف علي هامش الكتابة السياسية المجردة، فسنجده يجيد الوقوف بنصه في المسافة بين"الواقع"و"الحلم"محتفظا للنص عبر واقعيته براهنية الطرح واشتباكه مع المعيش كما يؤكد الناقد يسري عبد الله . ويبقي البساطي يبقي النموذج الفذ للكاتب المخلص لمشروعه الإبداعي، المتخلي عن كل أحلام الكتاب من جوائز وإعلام، لا نقصد مطلقا أن النقد خاصمه، أو ان الجوائز تعززت عليه، بالعكس نال محمد البساطي كل ما يشتهيه كاتب من احترام النقاد وإيمانهم بإبداعه، كما نال الكثير من الجوائز، كجائزة العويس، واقتربت روايته"جوع"من بوكر العربية في موسمها الثاني، وحصل علي جائزة أحسن رواية لعام 1994م بمعرض الكتاب المصري، لكنه رغم كل شيء، وبعد كل شيء، ظل يري نفسه كاتبا، وهي صفة عزيزة، إنه التعبير الذي ارتضاه المرحوم محمد مستجاب لنفسه، قال بعدما تعب ودار ولف وعمل، قرر في النهاية أن المهنة كاتب، في حوار معه يسأله المحاور عن الرسالة التي يود توجيهها لأدباء جيله فيقول في بساطة تليق بالبساطي : أقول لهم"ربنا يديهم الصحة". رحم الله البساطي .

إبراهيم محمد حمزة

>للاطلاع على المقال من المصدر إضغط هنا<