مبدعون يتخلصون من إبداعهم

مبدعون يتخلصون من إبداعهم

إبراهيم محمد حمزة ـ جريدة القاهرة : 22ـ 6 ـ 2010

"الكاتب الصحيح هو الذي يمزق أكبر عدد من الورق، ويلغي سطوراً بأكملها ليكتب كلمة واحدة" نصيحة وجهها الناقد الكبير محمد محمود عبد الرازق للكاتب محمد عبده العباسي، راسما له حدود الفن الصادق، الإخلاص الحقيقي للإبداع، السهر لأجل كلمة، يحيي حقي يقول إنه سهر أياما طويلة ليجد لفظا واحدا يقوله "إسماعيل" بطل قنديل أم هاشم" حين هجم علي القنديل في المسجد.. لدينا الآن مبدعون كثيرون، وإبداع قليل قليل، لدينا سيل من الكتب تتدفق، مثل " السلام عليكم " بتعبير العم صلاح عيسي، هل مطلوب من الكتاب غلق حنفية الإبداع ولو قليلا؟ هل الأفضل عدم نشر كل ما يكتبه المبدع؟ هل يعيب الكاتب أن يتخلص من بعض ما كتبه؟ هل هناك راصد قادر علي تناول تجارب جميع المبدعين نقديا، لينظر للأعمال في سياقها العام، مهما كان ضعفها؟ " القاهرة " طرحت أسئلتها علي مبدعينا، فماذا قالوا:الناقد والمبدع دكتور جمال نجيب التلاوي يقول: أتصور أنه ليس كل ما يكتبه المبدع ينشره. عليه أن يكتب طول الوقت و عليه ايضا أن يفكر كثيرا قبل النشر فليست القضية بكثرة الأعمال المنشورة و لنتأمل إبداعات بهاء طاهر وابراهيم اصلان قليلة في العدد كبيرة في القيمة الفنية.انا شخصيا أفكر كثيرا قبل نشر اي عمل سواء ابداعاً او نقداً او ترجمة و ما عندي مكتوب و غير منشور اكثر مما هو منشور لاني دائما أسأل نفسي هل لو نشرت هذا العمل سيضيف لما قدمته أم لا؟أما الكاتب الكبير محمد جبريل فيقول (لعلي أنظر إلي الأمر من زاوية مغايرة، فلي مشروعي الذي أحاول إنجازه بالقراءة والتأمل والكتابة، وما أكتبه يحاول ـ بالسرد الفني ـ أن يعبر عن هذا المشروع. أسئلة كثيرة قد لا أحسن الإجابة عنها، لكنني أحاول، محورها المواطنة وصلة المثقف بالجماعة وصلته بالسلطة ومقاومة القهر في الداخل ومقاومة الغزو من الخارج. بتعبير محدد فإني أحاول أن تكون لي فلسفة حياة، أن يعبر مجموع أعمالي عن هذه الفلسفة الحياتية، ليس بمعني الميتافيزيقا، وإنما بكل ما أعيشه وأتعرف إليه وأختبره، سواء في التاريخ أو علم الاجتماع أو السياسة أو التراث أو الموروث أو الفلسفة أو علم الجمال إلخ. ربما تناولت الفكرة الواحدة في أكثر من عمل، سعياً لتأكيدها، والفن في كل الأحوال ـ هو واسطتي ). في حين يري الشاعر أشرف البولاقي أن (علينا أن نتفقَ أولا علي أن كل مبدعٍ أو كاتب مهمومٌ بنشر إبداعه، وأن عمليةَ النشر هذه تحتلُ مساحةً كبيرة من سعيه ومشروعه، وله أن ينشر كل ما يراه هو صالحاً للنشر ودالاً عليه،، لكن التاريخَ يحدثنا ويؤكد لنا أن تحققَ المبدع وانتشارَه يلقي عليه مسئوليةً كبري في عملية الانتقاء والاختيار بين أعماله ليراجع ما ينشَر وما لا ينشر، لكنه هو التاريخ نفسُه الذي يحدثنا ويؤكد لنا أن كثيرًا من أعمال هؤلاء المبدعين المتحققين الأولي تجد طريقها - إما بعد تحققهِم أو بعد رحيلِهم - للنشر ونراها بخط أيديهم أحيانا وكمسودات أحيانا أخريربع شاعر ونصف ناقدمن يطالع مقدمة الكاتب الكبير - شفاه الله - فاروق عبد القادر لمسرحية إيزيس حبيبتي لميخائيل رومان، سيكتشف أن أقل من ربع أعماله فقط هو المنشور، ولم يعرض مسرحيا أيضا، ورغم ذلك تحقق "رومان " كاتبا مسرحيا له قدره، ولن نذهب بعيدا وبين يدينا قصيدة "عمرو بن كلثوم " ألا هبي بصحنك " والتي لم ينشد غيرها، ومن هنا يري القاص والروائي فكري داود أن العبث بعينه أن يستسلم الكاتب لنشر ما يكتبه كله، قائلا (إن الكاتب كثيرا ما يفاجأ بل ويدهش لبعض كتاباته، حتي لتبدو كأنها من نتاج غيره، وقد يسأل نفسه: ما هذه الروعة؟ كيف تأتي لي كتابة هذا؟والعكس صحيح، فقد يقول: يا لهذا العبث؟ لماذا كتبت هذا؟ وهنا يحسن عدم النشر..- كما أنك قد تجد نفسك في شكل ما أو نوع ما في الكتابة، وتري أن مشروعك الحقيقي لابد أن يتحقق عبرها...،هذا رغم إمكانية كتابتك لأنواع أخري وبتقنيات أخري، فتجد نفسك بالفعل محجما عن نشر هذا الأخير، خوفا من الشتات، أو التعدد التصنيفي...، والأفضل أن تكون روائيا عظيما مثلا، بدلا من نصف روائي، ونصف شاعر، وربع ناقد.. وهكذا.الشاعر الكبير عزت الطيري، بلهجته الساخرة يقول للقاهرة (ولو زرتني في مكتبتي لفتحت لك أدراج خزائني لتجد عشرات القصائد التي لم ولن أنشرها ولوجدت أكثر من مجموعة شعرية أضربت عن نشرها لشعوري أنها لا تمثل عزت الطيري وكان بإمكاني نشرها لأنني تقريبا لا أعاني كثيرا من مسألة النشر ولا أعاني ماديا بدرجة كبيرة والحمد لله فالحالة مستورة وكان بإمكاني نشرها علي نفقتي الخاصة لو أردت ذلك..الكاتب سمير الفيل له رؤية متكاملة، حيث يري (أول ما كتبت مجموعة قصصية علي شكل رسائل أخذت عنوان " أوراق الخريف" وهي تجربة سردية مبكرة ـ لاحظ العنوان الرومانسي ـ، ذهبت بها لصديقي الرسام السيد الخميسي ـ أستاذ كلية تربية دمياط حاليا ـ ليرسم الغلاف وكان بالزيت ومرت النسخة الوحيدة علي أيدي الأصدقاء بدار المعلمين سنة 1969. بعد أن قرأت الكثير من روايات الأدب العالمي شعرت بضآلة التجربة إلا أنني احتفظ بالمخطوط تحت يدي كشيء من ذكريات أيام " الصبا والشباب " البائسة !.هل من علاج ؟ربما لم يفطن كثير من أدبائنا لهذه الإشكالية، لكنها واقع مخيف، نشر كثير بلا إبداع، الأستاذ محمد جبريل يقول (أذكرك بأبطال همنجواي الذين يسقطون فيما يشبه الانتصار، وبثلاثية الدين والعلم والعدالة الاجتماعية في أعمال نجيب محفوظ، وفي دلالة العبثية عند ألبير كامي. وغيرهم. ما أريده في فلسفة الحياة أن تكون تعبيراً عن رؤيتي الخاصة. يهمني القارئ ولكن ليس إلي حد أن يسيطر علي تفكيري، أن أعني بماذا يريد، الأهم أن أناقش ما أريده، ما أريد تناوله، الفن وسيلة،حياة، مبتدأ ومنتهي، إذا تسللت الجهارة والتقريرية والمباشرة فإن الأولي بذلك دراسة أو مقال. الفن يعبر عن فلسفة الحياة، أو هذا هو ما يشغلني، شريطة أن يظل الفن فناً، يحمل قيمة الفن وخصائصه ورؤاه.. القاص نشأت المندوي وهو قاص عراقي مميز يعيش بأمريكا، أصدر عدة اعمال قصصية، يقول "للقاهرة " (انا هنا في حيرة من امري فلاادري هل ماتقصد هو إتلاف الإنتاج الأدبي ام عدم نشره او إلقائه في سلة المهملات.فالفكرة غير واضحه لي واعذرني عن الالتباس ثم كيف لإنتاج رديء ان يسهم في تقدم الادب اذا ما ركن هذا الإنتاج في الزوايا ولم تسطع عليه ضياء القراءة او تكتشفه عيون الناس).أما الشاعر أشرف البولاقي، فيعدها جريمة فيقول (إن ما يلجأ إليه البعضُ من التخلص من بعض أعماله للظن أو الاعتقاد أنها غيرُ صالحةٍ أو ليست علي قدر تحققهم فهو - في تصوري - خطأ وجريمة خاصة إذا كان المبدعُ حقيقياً وصاحب بصمة وله منجز ومشروع لأن مثل تلك الأعمال - بغض النظر عن مفهوم القيمة.الشاعر العراقي عبد الخالق زامل الساعدي يري أن هذا (لا يسهم في نهضة الادب،وذلك لأن من يتعمد ذلك،يحفر حفرة صغيرة تتوسع كلما زاد عدد الكتاب الذين يتخلون عن قدر ما من اعمالهم،اظن ان المبدع هو انسان ولا اظن كل الذي يكتبه هو ابداع في ابداع،لذلك كلما كان المبدع صادقا مع ذاته ومجتمعه كلما ازداد تقديرا ورفعة.دكتور جمال التلاوي يؤكد رأيه قائلا (أنا لي رأي شخصي في ما نشره كاتبنا الكبير نجيب محفوظ في سنواته الأخيرة من قصص قديمة كان يرفض حين كتبها نشرها فهذه اعمال اقل بكثير مما وصل إليه نجيب محفوظ ولكن ربما يكون المبرر لذلك انها تنشر والقارئ يعرف انها يجب ان تقرأ في سياقها التاريخي و الا لنالت من نجيب محفوظ كثيرا.بينما يختصر سمير الفيل الأمر بقوله (باستثناء العباقرة الأفذاذ ومن هم قريبون منهم من امثال كافكا ودستويفسكي ونجيب محفوظ وهيمنجواي وكازنتزاكي وكامو فكل كاتب بحاجة ماسة لمراجعة إبداعه والتأكد من صعود أسهمه جرأة وكشفا وابتكارا وإلا ظل في حالة "محلك سر"!.

بقلم إبراهيم محمد حمزة

>للاطلاع على الحوار من المصدر إضغط هنا<